أطلعت مصادفة، في أحد المواقع الثقافيّة على مجموعة نصوص كتبها مثليون من فلسطينيي الداخل. النصوص كانت حول تمجيد التلذّذ البصريّ والحسيّ بالذكر والجسد الذكوريّ ووصفهما. وبالطبع سيكون علينا كقراء للأدب، ويا للاسف! أن نتغاضى عن المتعة المباشرة التي يوفرها لنا مثل هذا الأدب المكشوف الصادم. وسيكون علينا أن نجد للنصوص تأويلات سياسية مثل أثر الإحتلال في إخصاء المُحتَل وإخضاعه نفسيّاً، وفي أحسن الحالات سنتحدث عن علاقة هذا النوع من الأدب بالكمال والتناسق والجمال والنظافة التي تتصل عادةً بالذكوريّ في الثقافة عامة.
قلت: للاسف! لأن أكثر القرّاء، هذا إذا لم يمتعظوا ويشمئزوا من مثل هذه النصوص، فإنهم سيتسلون بإحالاتها المتوهمة تلك التي لم تكن أصلاً في ذهن كتّابها مفوتين على أنفسهم فرصة ارتياد مناطق جديدة إنسانيّاً وعاطفيّاً وخياليًّا، قلَّ أن نجدها في أدبنا المتداول حتى أشدّه ثوريّة ورغبة في الإنتقاد الثقافيّ. وحتى لا أذهب بعيداً عن غايتي من كتابة هذه الأسطر فلأقلْ: لا نجده حتى في الأدب النسويّ الذي تعاني فيه المرأة ما يعانيه المثليون، بصورة ما، من تحقير وإزدراء بسبب الوضع الجنسيّ السالب الذي يفترض الذهن الذكوريّ أنها عليه حتماً.
وفي حالة سلوى بكر وروايتها “سواقي الوقت” (دار الهلال، 2003) فان المثليّ خالد في الرواية لا يشكل أيّ شيء مطلقاً، وإنّما يمرّ مروراً عابراً في سياق تبرءته من تهمة اللعب مع النساء. فلم يكن يميل إليهنّ بتاتاً، ولماذا؟ لأنّه كان يميل إلى الرجال. وانتهى الأمر عند هذا الحدّ. ربّما لأنّ الكاتبة مشغولة بقضيتها الأساسية، المرأة، وبتقديمها بصورة جديدة غير صور توفيق الحكيم بوصفها حركة في الفراش، أي وكما درجت الكثير من الحركات النسوية، بوصف ما تقوم به على انه استعادة لدورها الجنسيّ الإيجابيّ وحقّها المسلوب في أن تكون صاحبة الخيار والعصمة والقوامة. وغير الصورة التقليديّة للمرأة المهملة المُشعرة المُتذكرنة الخالية من أيّة ملامح أنثويّة، تلك التي تقارع الرجال في حقول الفكر لتتحول إلى أشباه لهم. وبالتأكيد غير تلك التي تتذاكر مع أندادها في جلسات الشاي أسماء المثقفات والفاعلات النسويّات في محاولة مظهريّة بحتة تنتهي بانتهاء اللقاءات (هذا حسب توصيف الكاتبة في ملحق الرواية).
تحاول سلوى بكر تقديم امرأة من نوع آخر مختلف كما تقول. تأتي إلى الرجل مُختارة وتبادر إلى امتلاكه. تُقبل عليه هي كما تشاء، في الوقت الذي تريد. لا تقبل منه مالاً أو هدايا، فهي لا تهتم بما يجلب لها، وتهمله، ألى أن يكفّ عن تقديم الهديا لها في الأخير. لا تقبل منه أيّ تحييد أو تنميط، فهي تأتيه بالثياب التي تعرف، وبالرائحة التي تملك، وبالتسريحة المعتادة لديها، وبالوضع الذي يريحها، فهي هي، ولا شيء آخر، ولذا ترفض العطر الذي يريدها أن تضع فيستغرب أول الأمر ويتضايق غير أّنّه في النهاية يحبّها كما هي ويجد أنّها تفوق زوجته المتوفاة التي كانت تحاول أن ترمم ما تظنه عيوباً ونواقص، بالحلاقة والصبغ والعطور والملابس لتكون شيئاً يعجبه لا الشيء الذي تريده هي.
وصهباء الراعية "الغنامة" والإنسانة البسيطة التي تعاني مشكلات زواجها من رجل يفقد رجليه بلغم فتحبّه أكثر من قبل وتواسيه وترعاه وتتحمل عبء تربية البنات الثلاث والولد الفاشل، تملك أن تحبّ وتملأ قلب وجسد الرجل الذي يقع اختيارها عليه ليكون شريكها جسديّاً مثلما تملك أن تتركه إلى غير رجعة حين يوجه إليها أيّ إهانة أو أبسط إهانة، وحتى من دون أن يقصد.
تسعى بكر إلى المغايرة فتذهب إلى النمطيّة، فهي تقدم أنموذجاً نسويّاً مختلفاً لراعية أغنام ممسوحة القوام لا تملك إلا اليسير من الجمال ولها عراقيب بارزة ورائحة مكروهة خليط من رائحة الجسد ورائحة الأغنام، ومع ذلك فهي مُشتهاة وقادرة على إثارة حسن الساعاتي الكهل الأرمل الذي ظن أنّه يحبّ زوجته المتوفاة وسيظل وفيّاً لذكراها، ولكنْ بلقائه صهباء التي يرسلها إليه بوّاب العمارة لتأخذ خروفيه اللذين اشتراهما مصادفة بسعر مناسب فترعاهما له وفي الزيارة الثانية تصير امرأته التي لم يعرف مثلها قبل. وهذا نمط فكريّ أكثر منه واقعيّ. وهو يثر الدهشة وربّما الإعجاب أكثر من التعاطف الذي يجعل القارئ يلامس القضية نفسيّاً ويعيش تفاصيلها وصولاً إلى إدراكها والوعيّ بكونها حالة اجتماعيّة وانسانيّة موجودة، تستحق إعادة النظر والتأمل، وربّما الإنضواء تحت لواء المناصرة والدفاع عن طروحاتها.
وهو الشيء الذي يحصل مثلاً عند قراءة “برهان العسل” لسلوى النعيمي فبطلة الرواية تروي تجاربها الجنسيّة بصوتها متصالحة تماماً مع رغبتها ورافضة تماماً لأيّ كبت أو تشويش على تلك الرغبة، ولذا فهي تقوم بدورها الجنسيّ والإنسانيّ على أكمل وجه جارّة الذكر إلى القيام بدوره والإلتذاذ به. ومن الناحية الثقافيّة، واذا كان لابدّ للرواية والأدب من مرجعيات أبعد من سطح الحكاية الساذج، فإنها تسعى إلى إقامة وشائج ثقافيّة تظنها كانت في وقت ما حاضرة وجرى اليوم، ويا للمفارقة!، تغييبها في العالم العربيّ الإسلاميّ لغايات سياسيّة إجتماعيّة تحفظ سلطة الذكر والأب وتمدّ هيمنته على حساب المرأة وأيّ إختلاف من أيّ نوع كان. ولذا تأتي الساردة البطلة أكاديميةً تعدّ رسالة في الثقافة الجنسيّة عند العرب فترجع إلى كتب عربيّة قديمة تتناول بكلّ حريّة أوضاع اللذة والجماع ومطيباتها ومديماتها وغيرها من الأمور بخطاب مباشر يُشعر أنّ الأمر لم يكن بهذا الإلتباس والصعوبة.
إنّ قراءتي لنصوص المثليّة أشعرتني بالهزّة ذاتها التي شعرت بها عند قراءة “برهان العسل” لا لأنها تجرنا إلى دائرة الممنوع المرغوب ولذّة قراءة ما هو صادم فحسب، ولكنْ لأنها تريك حالات اجتماعيّة وانسانيّة بتفاصيلها الدقيقة التي تخفى عادة على العقل والمنطق والحدود وأدواتهما والمتكلمين باسمها من النقّاد او المدافعين عن الأخلاق. وهو في الغالب ما يكون على الأدب أن يفعله، والرواية تحديداً إنْ هي اختارت ذلك وتبنته مثلما يعرف بالأدب الممنوع أو الأدنى.
إن رواية كـ “سواقي الوقت” تجادل بالعقل فتثير إعجاب القارئ ولكنّها تحافظ على المسافة بين المواقع الثقافيّة والعقليّة بل وتعززها. أما رواية كبرهان العسل ـ على سبيل المثال - فإنّها تكشف وتعرّي وتمدّ القارئ بالبراهين الواقعيّة والثقافيّة على أن الحياة تحتمل الجميع وتقبل بهم وعلينا أن نفكر بهذا المنطق من خلال تخيّله أوّلاً والرضا به ثانياً. فهو موجود ويمكن ان تكون الحياة أكثر إنتظاماً وأقلّ قسوة وانحرافاً مع الإعتراف به.